حكم الإضراب عن الطعام في ضوء القواعد الفقهية والمقاصد الشرعية
حكم الإضراب عن الطعام في ضوء
القواعد الفقهية والمقاصد الشرعية.
السؤال:
ما حكم الإضراب عن الطعام:
الجواب:
تشهد بلادنا الإسلامية والعربية وخاصة قلب العروبة فلسطين تزايد حركات الضغط على الغاصب المستعمر والظالم المتجبر، ومن أبرز وسائل الضغط في سجونهم الإضراب عن الطعام كوسيلة إظهار لمعاناة المساجين وقهر السجانين، وإيصالا لرسالة إلى المحتل بل العالم أجمع أننا إما أن نعيش بعز وإباء، أو نموت بكرامة ولو تكبدنا قبله العناء، فكبرياء المسلم الحر فوق قيد الأسر والذل، والموت بعزة للحر ألذ من العسل ولو كان طعمه مُّراً…
وقف الفقهاء في حكم الإضراب عن الطعام بين اتجاهين متقابلين: اتجاه علماء السلاطين المثبطين المحرمين المانعين من استعمال هذه الوسيلة وأنها إلقاء بالنفس إلى التهلكة، ولا أدري أهم عون للأمة أم للشياطين… وبين علماء الثورة المتحمسين الداعين لكل وسيلة مقاومة وهم لها من المشجعين المبيحين بل النادبين، لكن دون ضابط أو قيد، وهو قول بعيد عن إصابة الحق عند المحققين، وإطلاق حماسي ليس مجاله فقه المتشرعين لرب العالمين…
فلنترك تهور المتحمسين، وجبن علماء السلاطين، ولنطرح المسألة بناء على أصول العلماء المحققين من المتأصلين، بناء على فقه الموازنات، ومقاصد الشريعة الغراء وقواعدها الفقهية… فالذي أراه باجتهادي القاصر في هذه النازلة الخطيرة باختصار:
أولا: أنعم الله علينا بالطعام والشراب كي نستعمله لا لنتركه، فمن مقتضيات هذه النعم استعمالها شكرا للمنعم قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [البقرة: 172].
ثانيا: أصل الأكل والشرب واجب شرعا لما فيهما من حفظ أحد الضرورات الخمس وهو ثاني الضرورات منزلة وهو حفظ النفس، فما يؤدي لهلاك النفس فهو حرام شرعا، لذلك لم يشرع لنا الإسلام ترك الطعام والشراب إلا لعبادة مخصوصة وهي الصوم، لكن إن أدى الصوم إلى مفسدة ظاهرة في البدن أي مضرة ظاهرة بالصائم بقول طبيب عدل حرم الصوم ووجب الفطر، فمن ألم به مرض أمره الطبيب لأجله بأخذ الدواء والتقوي بالطعام والشراب وإلا حدث له مرض جديد أو زاد القديم أو تأخر شفاؤه وجب عليه الفطر، وحرم عليه الصوم، فإن صام مع تيقن الضرر فهو عاص لله لا طائع، وهو يتقرب إلى الله بما يبعده عنه، ويظن أنه يطيعه وهو يعصيه، ولا أدل على ذلك أن أكثر الفقهاء حرموا ترك أكل الميتة والخنزير للمضطر إذا لم يجد غيرهما وظن موته جوعاً.
ثالثا: يحرم الأكل والشرب أيضا إن أديا إلى مفسدة متيقنة في البدن، فمريض القلب مثلا لو منعه الطبيب من تناول الدهون وأنها ستؤذيه قطعا، فأكلها المريض بصورة تضره هو محرم شرعا، وكذلك مريض السكري إن كان تناوله لنوع من الأطعمة سيؤدي قطعا إلى الإضرار به فتناوله لها محرم شرعا، وكذلك إن غلب على ظنه، وكلما قل احتمال الضرر خفف الحكم إلى الكراهة فخلاف الأولى…
رابعا: يستحب التقليل من الطعام عموما لنصوص كثيرة في الشرع منها قوله صلى الله عليه وسلم (مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ ثَلَاثُ أَكَلَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ طَعَامٌ وَثُلُثٌ شَرَابٌ وَثُلُثٌ لِنَفَسِه) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، ولهذا يستعمل التقليل من الطعام كحمية طاردة لعدد من الأمراض واكتساب الصحة.
خامساً: أصل الاضراب عن الطعام وجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأقره ولم ينكره عليه السلام، بل حل وثاقه بيده، فقد (كان أبو لبابة ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فربط نفسه بسارية، ثم قال: والله لا أحل نفسي منها، ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي، فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا، حتى كان يخر مغشيا عليه قال: ثم تاب الله عليه فقيل له قد تيب عليك يا أبا لبابة فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلني بيده قال فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحله بيده ثم قال أبو لبابة: يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله قال: «يجزيك الثلث يا أبا لبابة»).
سادساً: الإضراب عن الطعام وسيلة لا مقصد، والقاعدة المقاصدية الفقهية المشتركة أن (الوسائل تأخذ حكم المقاصد)، وأنه (يخفف في الوسائل ما لا يخفف في المقاصد)، فوسيلة الواجب واجبة، ووسيلة المحرم محرمة، ووسيلة المندوب مندوبة… والإضراب عن الطعام وسيلة لدفع الظلم والقهر عن الأسير، فهذا المقصد معتبر في إضفاء نظرة إيجابية على وسيلته وهو الإضراب عن الطعام.
سابعاً: مما سبق يتضح أن الطعام والشراب وسيلة لا مقصد، وأن بهما حفظ النفس والصحة، وأنهما مكملان لضرورة حفظ النفس، فهما حاجة بشرية، وواجب شرعي ما لم يؤد فعلهما أو تركهما يقينا أو غالباً إلى ضرر فيحرمان، فعلى هذا الأصل يمكن أن نفرع حكم الإضراب على حالتين:
الحالة الأولى: الإضراب الذي لا يؤدي إلى ضرر متيقن أو غالب لا يقول فقيه بحرمته، إن كان هذا الحرمان وسيلة ناجعة في أخذ حق أو دفع ظلم أو إظهار معاناة لمن يغلب على الظن دفعهم بهذه الوسيلة إلى المساعدة لرفع الظلم عن المضرب، فعلى هذا يباح الإضراب الجزئي عن الطعام سواء كان لزمن معين أو أنواع معينة من الأطعمة لا يضر تركها، وقد يندب إن كان أكثر الوسائل تأثيرا على السجان، وقد يجب إن تعين طريقا لدفع الظلم بأن لم يجد طريقا غيره، أو لا تنفع وسيلة سواه.
الحالة الثانية: الإضراب الذي يؤدي إلى ضرر متيقن أو غالب وهو الإضراب المفتوح الكامل عن الطعام أي المستمر مع التوقف الكامل عن الطعام، وهذا الأصل فيه التحريم، فيحرم الإضراب الكامل المفتوح عن الطعام؛ لما فيه من ضرر بالغ بالجسم مع غلبة انزلاق المضرب إلى الموت، فيكون بهذا قد ألقى بنفسه إلى التهلكة وقد أمرنا ربنا عز وجل بأن لا نلقي بهذه الأمانة وهي النفس إلى المهالك {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] (وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء: 29]، فهو نوع من قتل النفس (الانتحار) الداخل في عموم الآية السابقة، وفي معنى ما في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً “، وقوله: ” كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع فأخذ سكيناً فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات. قال الله تعالى: (بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة)، فيحرم شرعا الإقبال على هذا النوع من الإضراب، لكن قد يُشرع بناء على الضوابط والقيود التالية:
الضابط الأول: تعين الإضراب عن الطعام وسيلة لدفع للظلم.
بأن لا يجد الأسير أو المسجون وسيلة أخرى كافية في دفع الظلم عنه، فالمشقة هنا جالبة للتيسير في الحكم أو من باب القاعدة الفقهية المتقررة (الضرورات تبيح المحظورات) أو على الأقل من باب (الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة)، فلو وجد وسيلة أخرى من الوسائل المشروعة حرم عليه الذهاب إلى الوسيلة الممنوعة للقاعدة الفقهية المتقررة أن (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف) لا العكس، وما كان من الوسائل دون ضرر هو الواجب تقديمه على ما فيه ضرر؛ لأن (الضرر يزال) كما قال صلى الله عليه وسلم، (وإذا تعارض المحرم والمبيح قدم المحرِّم)، و (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح).
الضابط الثاني: أن لا يتيقن موته وهلاكه بسبب هذا الإضراب أو يغلب على ظنه ذلك.
لأن (المظنة تأخذ حكم المَئِنَّة)، أي غلبة الظن يأخذ حكم اليقين في وجوب العمل به وبناء الأحكام عليه، فإن تيقن موته أو غلب على ظنه حرم عليه الإضراب على الطعام؛ لأن أي مقصد لهذا الإضراب لن يكون أعز من روحه ونفسه، فحفظ النفس ثاني الضرورات الخمس بعد حفظ الدين، فمهما كان على هذا الأسير من ضيم أو ظلم لن يصل إلى كونه أعظم من فوات نفسه وموته، اللهم إلا إن تعين وسيلة لحفظ الدين وهذا غير متصور في واقعنا اليوم.
الضابط الثالث: أن يتدرب هذا المضرب على ترك الطعام تدريبا يؤهله لخوض هذه التجربة القاسية.
لذلك نجد النابهين من حركات التحرر تمنع المسنين والمرضى والضعاف من الإضراب المفتوح عن الطعام، ولا يدخله إلا الأقوياء من المتدربين سابقا على مثل هذه التجربة، وللإمام حجة الإسلام الغزالي مثال رائع ضربه في إحياء علوم الدين في كتاب التوكل، باب بيان أعمال المتوكلين: في رد شبهة يطرحها منتقدو التصوف على المشايخ الذين يروحون في الصحراء دون زاد معتمدين على التوكل بقوله: ” الذي يفارق الأمصار والقوافل ويسافر في البوادي التي لا يطرقها الناس إلا نادراً ويكون سفره من غير استصحاب زاد فهذا ليس شرطاً في التوكل بل استصحاب الزاد في البوادي سنة الأولين، ولا يزول التوكل به بعد أن يكون الاعتماد على فضل الله تعالى لا على الزاد كما سبق، ولكن فعل ذلك جائز وهو من أعلى مقامات التوكل ولذلك كان يفعله الخواص. فإن قلت فهذا سعي في الهلاك وإلقاء النفس في التهلكة فاعلم أن ذلك يخرج عن كونه حراماً بشرطين: أحدهما: أن يكون الرجل قد راض نفسه وجاهدها وسواها على الصبر عن الطعام أسبوعاً وما يقاربه بحيث يصبر عنه بلا ضيق… “، هذا النص من الرائع مع تكملته يبين جليا أن الأمر يحتاج إلى دربة حتى لا يكون ممن يلقون بأنفسهم إلى التهلكة.
الضابط الرابع: إذا تيقن أو غلب على ظنه أنه لن يموت ولكن هذا الإضراب سيؤدي يقينا أو غالبا إلى ضرر فاحش في جسده كعاهة مستديمة، أو مرض عضال، أو تلف دائم… ففي هذه الحالة يأتي فقه الموازنات، فالأسير فقيه نفسه أو يستفتي فقيها بقربه أو يستطيع الوصول إليه، فيقدم (دفع المفاسد على جلب المصالح)، و (يدفع الضرر الأكبر بتحمل الضرر الأصغر) و (الضرر العام بتحمل الضرر الخاص)، وغيرها من القواعد والضوابط… التي تشترك جميعا في أصل واحد هو: إذا كان الضرر المترتب على الإضراب عن الطعام أكبر من الضرر المتحقق بتركه حرمنا هذا الإضراب، وإن كان أقل أبحنا الإضراب أو ندبناه…
فإن غلب على ظنه أو تيقن عدم الموت أو الضرر فهذا مأجور لا موزور، فالمجتهد كما في صحيح البخاري (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)، فهذا يعمل باجتهاده، وغلبة الظن تكفي العمل والحكم، فلو أخطأ في اجتهاده فمات نحسبه عند الله شهيدا والله حسيبه ولا نزكي على الله أحدا.
خلاصة الأمر: أن الإضراب الجزئي لهدف نبيل حلال شرعا، أما الشامل الكلي فالأصل فيه الحرمة إن تيقن الهلاك أو غلب على ظنه، ولا يجوز إلا إن لم يجد الأسير وسيلة أخرى كافية لدفع الظلم عنه، وأن لا يتيقن موته وهلاكه بسبب هذا الإضراب أو يغلب على ظنه ذلك، وأن يتدرب هذا المضرب على ترك الطعام تدريبا يؤهله لخوض هذه التجربة القاسية. أما إذا تيقن أو غلب على ظنه أنه لن يموت ولكن هذا الإضراب سيؤدي يقينا أو غالبا إلى ضرر فاحش فيأتي فقه الموازنات، فالأسير فقيه نفسه أو يستفتي فقيها بقربه فإذا كان الضرر المترتب على الإضراب عن الطعام أكبر من الضرر المتحقق بتركه حرمنا هذا الإضراب، وإن كان أقل جوزناه.
وفي الختام لا بد من التنبيه على أمرين:
التنبيه الأول: أن الضرر الخاص بهذا الأسير أو السجين غالبا ما يأتي بمصلحة عامة لباقي الأسرى، بل ويدفع عنهم كثيرا من أضرار تَغَوُّل السجان؛ لأنه في حالة وفاة سجين سيحسب السجان ألف حساب للآثار السلبية على المحتل كإذكاء روح المقاومة والتحدي… والقاعدة الفقهية المتقررة عندنا أن (الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام).
التنبيه الثاني: أن تقدير الضرر قلة وكثرة، يقينا أو ظنا أو وهما… يرجع إلى السجين نفسه أو من حوله، فهو ومن حوله أصحاب التقدير في مثل هذا القرار الخطير فينبغي احترام اجتهاداتهم.
والله من وراء القصد.
مصدر الفتوى من كتاب:
(فتاوى معاصرة)، مؤلف الكتاب: للدكتور أيمن عبد الحميد البدارين،
دار النشر: دار الرازي للنشر والتوزيع، مكان النشر: عمان، الأردن، رقم الطبعة:
الطبعة الأولى، سنة الطبع: 1434هـ-2013م، رقم الصفحة (82-88).
اكتشاف المزيد من موقع الدكتور ايمن البدارين الرسمي - aymanbadarin.com
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.